سلسلة مقالات قصيرة عن الروح القدس ـ أبونا متى المسكين
(11)
الجمال الهندسى للروح
"وأعطى داود سليمان ابنه... مثال كل ما كان عنده بالروح لديار بيت الرب ولجميع المخادع حواليه ولخزائن بيت الله وخزائن الأقداس (من جهة هندسة المبانى)." (أى28: 11و12)
روح الله هو المختص بالإبداع الفنى فى الخليقة. فالآب يأمر، والابن يُنفذ، والروح يُبدع الجمال ويُتقن! وفى النهاية تحدّث السماء بمجد الله، والفلك يُخبر بعمل يديه.
ولولا روح الله الذى فينا، الذى هو روح الجمال والإبداع والتذوق الفنى، ما استطعنا أن نرى فى الخليقة أى جمال، بل ولا عرفنا أنه يوجد جمال البتة!! فالروح الذى استطاع أن يُعبر عن مجد الله، بواسطة الإبداع والإتقان للخلائق فى السماء والأرض، عاد واستقر فى روح الإنسان، فألهمه اكتشاف الجمال فيها، الذى هو لمسة يديه، وبالتالى ألهمه معرفة القدير: "لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدركة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته، حتى إنهم بلا عذر." (رو20:1)
وهكذا صار الجمال الهندسى لروح الله واسطة لمعرفة القدير. فالجمال وحى وإلهام؛ وإن أحسن الإنسان تقبله واستخدامه، دخل فى مجال الرؤيا الكاشفة لمجد الله وحكمته!!
وقد أعطى الله فى صميم خلقته وكجزء من نفخة روحه فيه؛ هذا الإحساس الجمالى، والتذوق الفنى والهندسى، كنعمة عامة، وكمدخل للتعرف على الله، واستقراء وجوده فى الخليقة، وبالتالى فى نفسه.
والإنسان أول من عبّر بالإلهام عن الله، بأعمال يديه، عبّر بالفن الهندسى. فالأهرامات تعتبر أول مرحلة من التعبير الإلهامى عن اللاهوت – ممثلاً فى فكرة الخلود – الذى يحسه الإنسان فى أعماقه، وقد صاغ الإنسان، بالأهرامات، تعبيره عن الله، بالضخامة الهندسية، وبأكثر ما يمكن من المادة، وبآلاف آلاف الأطنان، ليفصح عن إحساسه بعظم الله وضخامته.
وفى المرحلة التى تليها من الإلهام، انتقل الإنسان فى تعبيره عن الله، من الضخامة الهندسية إلى الدقة الجمالية، فدخل فى مرحلة النحت، نحت التماثيل الدقيقة والجميلة. فبكمية من المادة، أقل بكثير جداً من الأهرامات، ربما بطنّ واحد أو أقل، استطاع الإنسان أن يُجسد إحساسه باللاهوت، مستخدماً إحساسه الفنى الدقيق، ليفصح عن جمال الله وانسجامه اللانهائى.
وفى الدرجة التى تليها من الإلهام، انتقل الإنسان من مرحلة النحت إلى مرحلة التصوير بالألوان. وهنا بعدة جرامات قليلة من المادة، استطاع أن يُعبر عن اللاهوت فى أروع أحاسيس الحنان والطهارة.
ومن عصر الإلهام بالصورة، انتقل الإنسان إلى عصر الإلهام بالموسيقى، حيث بالحركة الآلية واختلاف الأصوات، استطاع أن يُعبر عن إحساسه بالله بواسطة النغم الجميل، باللحن المؤثر، الذى يبلغ بالشعور حتى أعماق الإحساس بالله.
ومع عصر الموسيقى، انفتح إلهام الإنسان إلى الترتيل، حيث اكتشف فى حنجرته وفى صدره أعظم واسطة يُعبر بها عن إحساسه بالله. وهنا وبدون مادة أو أى حركة آلية – بالصلاة – وصل الإنسان إلى آخر درجة للتعبير عن الله!
فيا روح المسيح، الذى بث فى الإنسان، فى كل العصور، أن يُعبر عن وجودك فى الخليقة وفى الإنسان، ألهمنى أنا أيضاً الواسطة، التى أعبر بها عن إحساسى بك، وأن أحسك وأراك فى كل هيكل، فى كل جمال، فى كل وجه، فى كل صورة، فى كل لحن، فى كل صلاة؛ حتى حينما أراك وأحبك فى كل خليقة، وفى كل إنسان، يصير كل شىء وكل جمال وكل جسد طاهراً فى عينى، وواسطة لينطلق فمى بالتسبيح لقدرتك الفائقة، وجمالك المبدع، ووجودك فى كل وجود!!